فإنه مما يحزن قلب المسلم الواعى ويؤسفه أن يرى إخوانه المسلمين لا يتثبَّتون فى دينهم, ولا يتقون الله فى علماء الإسلام الأكابر, ويراهم يرمون علماءنا بأشنع التُّهم,, وبأنهم يبيعون الآخرة بالدنيا, وحاشاهم واللهِ وكلا ثم كلا, فَلَكَمْ نعرف من أمانتهم وصدقهم, وصيانتهم, وتفانيهم فى الدفاع عن حوزة الإسلام, والدفاع عن نبى الإسلام وشريعته وأحكامه, بما لا يفقه هؤلاء الصغار, ولا يستطيعون أن يدانوه قيد أنملةٍ, وإنما وللأسف يتعلَّقون بأوهامٍ كاذبةٍ فى أذهانهم,فوجب علينا التوضيح والرد عليهم.

السرة الذاتية لشيخ الاسلام علي جمعة والمقالات والفيديو اضغط علي الصورة

الخميس، 22 مايو 2008

الانتصار لمفتي الديار وتوضيح الاشكال في قول الامام علي جمعة الولي يزني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه ممن أحسن الأدب بين يدى أهل العلم واستفهم عما أشكل عليه ولم ينخدع بتمويه أحداث الأسنان سفهاء الأحلام الذين يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم كما وصفهم النبى صلى الله عليه وسلم, وبعد؛

فإنه قد اعترض بعض عوام المسلمين ممن لا يوقرون كبيرهم, وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "من لم يوقر كبيرنا فليس منا". وقال: "ليس منا من لم يوقر علماءنا". فقالوا: كيف يسوغ وصف شيخ الإسلام والمسلمين سيدى على جمعة مفتى الديار المصرية- حفظه الله تعالى- كيف يسوغ له وصف الولى بأنه قد يقع فى الزنا – كما ورد على لسان سيدى عبد القادر الجيلانى الحسنى وهو من جده رسول الله – عندما سئل:"أيزنى الولى؟" فقال: "وكان أمر الله قدراً مقدوراً".

والجواب عن الاعتراض – لعل الله يفتح قلوب المنصفين الطالبين للحق- هو الآتى:

أولاً: أن الشيخ الجيلانى أرجع الأمر إلى الله تعالى, فهو الذى بيده مقادير الأمور, وأرجع الأمر إلى قدر الله, وهل يحول أحدٌ دون قدر الله إذا أراد شيئاً!!
إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له "كـــن" فيكون. فلأجل ذلك قال: نعم يجوز أن يقع الزنا من الولى, والمعنى: نعم يجوز من حيث القابلية للفعل والإمكان إذا قدَّر الله تعالى ذلك, وليس المعنى منصرفاً إلى كل ولىٍّ بل إن الله عصم أغلب أوليائه من ذلك, ولكن لو شاء الله أن يقع من أحدهم من الذى يحول دونه؟! فمن توهم غير ذلك فهو جاهل أو هو حمار برأس إنسان!!

ولذلك قالوا:

قال حمار الحكيم تُومَـا لو أنصـف الدهر كنتُ أركب
فإننى جاهلٌ بسيـــطٌ وصاحـــبى جاهلٌ مركب!!

ثانياً: إنه ليس أعظم قدراً وتقوى وعلماً وديانةً من الصحابة الكرام- رضى الله عنهم أجمعين- ومع ذلك فقد جاز أن تقع المعصية بل الفاحشة من أفرادٍ منهم, وليس ذلك أبداً هو الغالب, وإنما هم غير معصومين بل محفوظون من وقوعهم فى المعاصى والفواحش, ومع ذلك وقعت الفاحشة من سيدنا ماعزٍ الصحابى- فإن كل من رأى النبى فى حياته ولو مرةً فهو عند أهل الحديث والعلم معدود فى الصحابة مع العلم أن الحابة درجات ومراتب متفاوتة لكن يجمعها معنى الصحبة فتحصل للأعرابى ولغيره بل للصغير منهم - وتاب الله على الصحابى الولى ماعز, ونهى النبى عن سبابه بعد رجمه وأخبر أنه تاب توبةً عظيمةً, ونعلم أن الله يتوب على من تاب, وأنه يقبل التوب ويغسل الحَوْب, والتوبة تَجُبُّ (أى: تمحو) ما قبلها من الفواحش والمعاصى بإجماع العلماء. فلماذا يستعجب الجاهلون جواز وقوع ذلك من الولى كما أنه يجوز أن يقع من كل أحدٍ من المسلمين؟!! فإن الله تعالى يقلِّب القلوب أنَّى(كيف) يشاء, ويصرِّفها كيفما أراد_ كما ورد ذلك فى الحديث القدسى. فاعتبروا يا أولى الألباب.

ثالثاً: المرأة الغامدَّية التى زنت وأقرت بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فطلب منها أن تذهب فتضع حملها, وجاءت بعد ذلك فطلب منها أن ترضعه, فأرضعته حولين ثم جاءت, فأمرها أن تدع ولدها عند من يرعاه من قرابتها, ففعلت, ثم جاءت فأقام عليها الحد. ثم إن سيدنا خالد سبها فقال النبى: "لا تسبها فإنها تابت توبةً لو وزِّعت على أهل الأرض لوسعتهم". مع بعض اختلافٍ فى رواية الحديث.

والسؤال الآن أليست هذه المرأة من الصالحات ومن قوة الإيمان بمكانٍ حين طلبت أن يقام عليها الحد تكفيراً لذنبها وإبراءً لذمتها أمام الله تعالى؟
وقد أنزلها الله هذه المنزلة من إعلامه بقبول توبتها بهذه الدرجة. هذا بيانٌ للناس وليتق الله كل غبىٍّ معاندٍ يركب رأسه فيما لا يعلم.

وقد تاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو مع النبى صلى الله عليه وسلم, ومعلومٌ أن التخلف عن الغزو معه صلى الله عليه وسلم كبيرةٌ.

ردٌ عن اعتراضٍ آخر عن مسألة زنا المؤمن:

قول المعترض كيف يكون من يفعل الزنا- إن افترضنا أن الولى فعله فعلاً- فكيف يكون مؤمناً والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: "ولا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن

والجواب: أن المعترض لا يفهم الحديث لجهله وضآلة عقله لأن العلماء قالوا فى معنى الحديث: إن هذا نفى لكمال الإيمان, وليس نفياً لمطلق الإيمان.
والمعنى: أن إيمانه ينقص نقصاً شديداً حين يفعل ذلك, لكن أصل الإيمان الذى هو الإيمان بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله موجود بقلبه, وإن تغافل عن مقتضى هذه الكلمة من البعد عن المعاصى صغيرها وكبيرها.

وليس النفى لمطلق الإيمان وإلا كان مرتداً ولم يقل ذلك أحدٌ أبداً من العلماء إلا جماعات التكفير والخوارج أمثال المعترض. ولذلك أكّد النبى صلى الله عليه وسلم على دخول الزانى والسارق الجنة إذا كان من أهل لا إله إلا الله فقال أبو ذر الغفارى : وإن زنى وإن سرق؟! قال: "وإن زنى وإن سرق. رغم أنف أبى ذر".

والأمر لا يحتاج إلى تفصيل أكثر من هذا, فكفى بحديث البشير النذير حجةً ودليل.


ردٌّ عن اعتراضٍ آخر على كلام سيدى المرسى أبى العباس:

عندما سئل سيدى المرسى أبى العباس عن أحد تلاميذه وقد رآه إخوانه وهو يزنى, فلحقوا به ليمسكوا به, فلما قارب البحر مشى عليه وفر منهم, فلما سئل قال: " إن الله إذا وهب ما سلب". فاعترض غير الفاهم على ذلك وقال: كيف يزنى وهو ولى؟
والجواب:
أنه يُعْرف من كلام السيد الجيلانى السابق ذكره منذ قليلٍ كيف أن الزنا جائز الوقوع من الولى وغيره من المسلمين, والسؤال:
هل إذا وقع منه يسلبه الله ما آتاه من الكرامات والمزيَّة والهداية. أم أنه إن تاب يتوب الله عليه, ويحفظ عليه حاله وما آتاه من الكرامة والنعمة مع صدق توبته؟ والجواب: أنه إن تاب وقبل الله توبته لا شك يحفظ عليه ذلك كله إن شاء الله تعالى, وإن لم يشأ فلا محجِّر على الله فى شىء لا فى الوهب ولا فى السلب, مع العلم بأن الله تعالى قد يستدرج الواحد منا بما آتاه من الكرامات والنعم ويزيده فيها ويظن هو أنه على شىء, فيكون ذلك من أشد المكر به من حيث لا يدرى. "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" الآية.
فيجوز فى كلام سيدى المرسى أبى العباس أن يكون هذا المريد قد تاب من وقته لمَّا رأى أن الله كشف ستره لإخوانه عقوبةً له فتاب لحينه, فأعاد الله عليه ما كان وهبه إياه من غير سلبٍ. فيصدق عليه أن الله إذا وهب ما سلب. وأما فراره من إخوانه إن افترضنا أنهم كانوا سيقيمون عليه الحد, فذلك جائزٌ, فالأصل هو الستر على النفس وعلى المسلمين, وإذا لم يبلغ الحد الحاكم يستحب له الستر على نفسه( ولتراجع هذا الحكم فى كتاب"أقضية رسول الله" لابن فرج القرطبى).

ويجوز أنه لم يكن تاب وفعل ما كان يفعله على سبيل الكرامة وقت طاعته ورشده وهو أن يمشى على الماء طلباً للهرب من إخوانه, فلم يسلبه الله ذلك الوهب ولكن هذا من مكر الله به. فيصدق على الكلام أيضاً أن الله إذا وهب ما سلب. والله الهادى لمن أراد الهدى. والذين آمنوا زادهم هدىً, فاللهم اهدِ المعترض غير الفاهم. آمين.
فيتحصل بذلك الجواب عن سؤال المعترض وقوله: "كيف يزنى ويشهد له بالولاية"؟
ونعلم بذلك أنه إذا اختلفت الجهة والاعتبار فلا تناقض, لأنه يعود ولياً لو تاب توبةً نصوحاً وشاء الله أن يرد إليه ولايته ويتولاه برحمته, وإن أصر على معصيته من غير توبةٍ جاز أن يكون مستدرجاً غير ولىٍّ. فهو ولىٌّ باعتبارٍ غير ولىٍّ باعتبارٍ آخر. ومتى تاب عليه وقبله فهذا يدل على عظيم فضل الله ورحمته, ففى الحديث : " للهُ أشد فرحةً بتوبة عبده من أحدكم ضلت منه دابته فى أرضٍ فلاةٍ (أى:صحراء) فبينما هو جالس تحت شجرةٍ يستظل بها وجدها قائمةً عنده " فمن هذا الذى يريد أن يحجِّر فضل الله ويتجرأ عليه فيما يَمُنُّ به على من تاب وأناب. فليتق الله وليقل قولاً سديداً.



محمد عبد الرحمن الشاغول
أحد مريدى وتلاميذ سيدى العلامة أ.د/ على جمعة- حفظه الله تعالى
باحث علمى, ومحقق للتراث, وأحد الكاتبين بالموسوعة العربية- التابعة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( ALECSO) بتونس- جامعة الدول العربية.

ليست هناك تعليقات: